يدخل “أحمد” سوق الأسهم بناءً على نصيحة صديق، أو منشور قرأه على السوشيال ميديا بأن السوق في حالة رواج وترتفع، وأن عليه اللحاق بسوق الأسهم في موجتها الصاعدة الحالية؛ حتى يستطيع استثمار أمواله كي تنمو بدلاً من بقائها على قيمتها دون زيادة في ظل لجوئه للادخار السلبي.
يبحث “أحمد” عن أفضل خياراته في السوق، ويلجأ لمن يعتبرهم خبراء من معارفه الشخصية أو من “المؤثرين” على صفحات التواصل الاجتماعي وبناء على ما يصل إليه من تقديرات يقرر شراء عدد من الاسهم في شركة يبلغ سعر السهم فيها 100 ريال، وبعد شهر وصل سعرها لـ120 ريالًا.
أحلام الثراء السريع
يشعر “أحمد” بالسعادة، وأن الاستثمار في الأسهم أمر سهل ميسور ولا يتطلب أكثر من نصيحة سريعة من صديق أو من محلل على وسائل التواصل الاجتماعي، يبدأ سعر السهم في التراجع التدريجي، ويرفض “أحمد” بيع السهم حتى مع تراجعه عن 100 ريال وفقدانه كل مكاسبه وتحول المؤشر لخانة الخسارة “رهانًا” على تحول السوق وانقلابها.
تشير دراسة لجامعة “ستانفورد” إلى أن أكثر من 80 % من المتعاملين يطيلون الاحتفاظ بالأسهم أكثر مما ينبغي أو يبيعونها بشكل مبكر، وفي حالة الاحتفاظ فإن ذلك يشير إلى “أمل” المتعامل بأن يرتد سعر السهم الهابط صاعدًا، وغالبًا ما يكون هذا “الأمل” غير مدعوم بحقائق السوق أو الشركة ولذلك لا يتحقق.
كما أن كثيرين يدخلون في السوق في أوقات الصعود، طمعًا لتحقيق أحلام الثراء السريع أو ما يعرف بـ”الدخل السلبي”، بينما تبلغ نسبة هؤلاء الذين يبدأون التداول في أوقات صعود السوق حوالي 92% في السوق الأمريكية.
فكثيرون يتصرفون مثل “أحمد” و”يصدمون” بحقيقة أن الأسواق كثيرًا ما تتراجع بعد ارتفاعها ولذلك العديد من الأسباب المتعلقة بطبيعة السوق نفسه، أو بطبيعة المتعامل، وعلى المتعامل الانتباه إلى كل تلك العوامل التي تؤثر في السوق وتجعل الخسارة تلي المكسب في الكثير من الأحيان.
السوق التصحيحية
ولعل أول سبب متعلق بالسوق لانقلاب المكاسب لخسائر، هو ما يعرف بـ”الارتدادات التصحيحية” للسوق، وذلك حتى في حالة السوق الصاعدة، حيث يميل كثير من المضاربين إلى وضع نسبة “مرضية من الأرباح التي يحققها من السهم وليكن 10% ليقوم ببيعه بعدها بغض النظر عن تقييمات مستقبل السهم الواقعية.
وفي ظل سوق صاعدة يبدو تيار البائعين في ظل ظهور بعض القمم كما لو كان تيارًا واحدًا يؤدي إلى هبوط السوق، وأدى هذا لظهور 24 سوقًا تصحيحيًا في سوق الأسهم الأمريكية منذ عام 1974 تراجعت فيها السوق بنسب ملحوظة في أعقاب ارتفاعها بشكل كبير.
ويتم تعريف السوق التصحيحية بأنها تلك التي ينخفض فيها السوق بنسبة 10% أو أكثر لكنها لا تتعدى 20% في تراجعها وإلا تحولت إلى سوق دببة، ومن بين 24 سوقًا تصحيحيًا تحول 3 فقط إلى سوق دببة، وهناك بالبطع أكثر من 3 أسواق دببة خلال تلك الفترة لكنها لم تبدأ كسوق تصحيحية ولكن لأسباب أخرى.
وتعتبر شركة “تشارلز شواب” للتداولات أن أسواق التصحيح (ومنها الصاعد) هي الاختبار الأكثر صعوبة لكل المضاربين حيث يكون عليهم اتخاذ قرار البيع أو الشراء أو الاحتفاظ في ظل سوق قامة بعكس اتجاهها بما يزيد حسابات الصعود والهبوط تعقيدًا عنها في سوق صاعدة أو سوق متراجعة.
وتزداد أهمية الحسابات في ظل سوق الدببة أيضًا، فعلى الرغم من أنها أقصر زمنيًا (446 يومًا في المتوسط في السوق الأمريكية) من سوق الثيران (2069 يومًا في المتوسط)، إلا أنها تشهد تغييرات أكثر راديكالية وحدة في الأسعار بما يفرض على المتعاملين سرعة الاستجابة تجنبًا للخسائر.
وغالبًا ما يصف كبار المتعاملين السوق التصحيحية بأنها صحية لتجنب التضخم الكبير في أسعار الأسهم مما يؤدي لاحقًا إلى “تحطم” السوق وهبوطها بنسب قياسية يكون من الصعب على السوق أن تتعافى منها، لذا فإن الهبوط البسيط كل فترة قصيرة أفضل من الهبوط الكبير وإن حدث كل فترة كبيرة.يمكنك تغيير فريقك وإن كان رابحًا
أما فيما يتعلق بتأثير المتعامل نفسه وليس الأسواق، فكثيرون يتبعون مبدأ يعتبره كثيرون صالحًا للألعاب الجماعية (مثل كرة القدم) وهو “لا تغير فريقًا فائزًا”، أي أنه إذا كانت صيغة معينة للتداول تحقق مكاسب للمتعامل فليس عليه التدخل فيها أو تغييرها خشية إفسادها وتحويل المكسب لخسارة.
ولا يصلح هذا المبدأ لعالم أسواق المال، لأنها تتغير باستمرار، وهنا يبرز تحذير المستثمر البارز “وارين بافيت” بأن النجاح قد يكون أسوأ مستشار لأنه غالبًا ما ينسب المتداول فضل صعود الأسهم إلى عنصر واحد أو عنصرين وليس إلى قراءة كاملة للسوق وللأسهم التي يتداول عليها.
ويتفق ذلك مع ما أكدته الدراسات النفسية حول أن قرابة 70% من الناس لا يميلون لتغيير انطباعاتهم الأولى بشكل عام في الحياة، وينعكس هذا على سوق الأسهم بأن تجربة الشخص الأولى مع سهم بعينه (أو محلل أو شركة تداول) تجعله يستمر فيها أو يتراجع عنها بدون أسس حقيقية وهو ما يجعله عرضة للخسارة بعد مكسب إذا لم تكن اختياراته مبنية على أسس صحيحة.
وفي هذا الإطار، تكشف دراسة لمركز “بيو” للدراسات إلى أن 30% فقط من الناس لديهم استعداد لتقبل “الواقع الجديد” دون الوقوع في صدمة حقيقية، بما يجعل الغالبية تستمر في المسار الذي اتخذته بعيدًا عن مدى ملائمته للمتغيرات من حولها، وأن هذه الأقلية (30%) لا تتقبل الواقع باستمرار، أي أن أحدهم قد يستوعب واقعًا اجتماعيًا ما ولا يستوعب واقعًا اقتصاديًا والعكس صحيح بما يجعل النسبة الواقعية المستعدة لتغيير مواقفها في كل قضية أقل كثيرًا من 30%.
كما تشير الدراسة إلى أن المستثمرين والمتداولين في البورصة يحرصون على جمع المعلومات ومتابعة البيانات بشكل غير منظم حتى يفقد أكثر من 70% منهم القدرة على التمييز بين المعلومات “ذات الصلة” وتلك “غير المهمة” و”غير الحيوية” و”ذات الأهمية المحدودة” ليصبح جمع المعلومات هنا نقمة وليس نعمة لأنها لا تدعم “رشادة” اتخاذ قرار صحيح.
التدوال بـ”الإحساس”
وتكشف الدراسات أيضًا أن 24% من المستثمرين يدركون أن بعض المعلومات قد لا تكون على نفس درجة الأهمية، لكنهم يسعون للحصول عليها على أي حال، لتشكل لها عنصر “تشويش” يمنعهم من اتخاذ قراراتهم بشكل صائب ودون “الشعور” بأنه “قد يكون فاتهم شيء ما”، بما يجعل قراراتهم متأخرة بعض الشيء أو حتى يجعلهم يتخذون القرارات الصحيحة في وقت مناسب ولكن مع إرهاق ذهني وعصبي شديد.
بل وتشير الدراسات إلى أن 6% من المستثمرين فحسب يعرفون جيدًا ما المعلومات التي يحتاجون إليها كي يتخذوا قرارهم الاستثماري فيسعون إليها ولا يرهقون أنفسهم في البحث ما وراء ذلك بما يجعلهم يتخذون قرارات أفضل في السوق، فضلًا عن تمتعهم بدرجة أكبر من الراحة الذهنية.
كما أن كثيرين يبيعون ويشترون مثلما يفعل “أحمد”، أي وفقًا لما “يشعرون به” ووفقًا لما “يسمعون” دون أن يعملوا بأنفسهم مطلقًا سواء في التحليل الفني أو الأساسي، هذا فضلًا عن عدم إلمام الكثير ممن يقومون بنوعي التحليل بأسس كل منهما، وتصل تلك النسبة إلى أكثر من ثلث المتعاملين في السوق وفقًا لبعض الدراسات.
ويبدو انقلاب المكاسب إلى خسائر منطقيًا طالما أن الغالبية تدخل السوق لأول مرة للاستفادة من صعوده، فإنهم يستفيدون في ذلك من طريق عبده لهم آخرون بتحليل الأسواق بشكل علمي والإقبال على الشراء (أو حتى من آخرين قلدوا “الرواد” واتبعوا تحركاتهم في السوق) ومع تغير الوقائع يغير “الرواد” موقفهم من الاحتفاظ إلى البيع ليبقى “أحمد” متمسكًا بسهمه الذي يخسر.
ارقام