“في أوقات الأزمات تصنع الثروات”، قول ذائع يكرره الناس في الأوقات الصعبة ليذكروا أنفسهم دوماً أنه حتى في أحلك الأزمات تلوح الفرص في الأفق، فعلى الرغم من أن الصورة العامة للاقتصاد العالمي تبدو غير مشرقة، بإمكان الشركات تلمّس طريقها نحو فرص تساعدها على الصمود، بل وشق الطريق نحو التفوق.

تكبدت الأسواق العالمية خسائر قاسية في النصف الأول من العام الجاري؛ بسبب تضخم حاد ارتفع لأعلى مستوى في أربعة عقود على جانبي الأطلسي مما دفع البنوك المركزية في أنحاء العالم لتشديد سياستها النقدية لمواجهته مما ينذر بدفع الاقتصاد إلى الركود.

أنهى المؤشر “إس آند بي 500” الأمريكي النصف الأول من العام الجاري بخسارة 20.6 بالمائة في ظل أداء متذبذب بشدة دفع خسائر السوق إلى 8.5 تريليون دولار مع تراجع المؤشر الرئيسي في سوق المال الأمريكية لأدنى مستوى في النصف الأول من أي عام منذ 1970. في الوقت ذاته تكبدت الأسهم الأوروبية أسوأ خسارة فصلية منذ المبيعات التي شهدتها في بداية جائحة كورونا في مطلع 2020، وهبط مؤشر “ستوكس 600” الأوروبي 10.7 بالمائة في الربع الثاني من العام.

التراجع .. أزمات وفرص

مما لا شك فيه أن التراجع الأخير في الأسواق وأسعار الأسهم يمثل تهديداً لكل الشركات في مختلف القطاعات وعلى الأخص شركات التكنولوجيا التي تلقت ضربة موجعة خلال الأزمة الحالية بسبب انخفاض أسعار أسهمها بشدة، لكنه في ذات الوقت يخلق فرصاً متميزة.

التاريخ يظهر لنا مراراً وتكراراً أن الهبوط مؤقت وتليه فترات طويلة من النمو، وعادة ما يبرز الرابحون في الأوقات الزاخرة بالتحديات مستفيدين من الفرص ومستحوذين على الأصول والعملاء والمواهب والكفاءات المناسبة بالأسعار المناسبة، كما أن الهبوط يمثل فرصة للشركات الصناعية كي تعزز جهودها للتحول الرقمي، نظراً للحاجة المتزايدة إلى ذلك ولأن الموارد المتاحة لم تكن في أفضل حال من الوقت الحالي.

عادة يمكن التنبؤ برد الفعل التقليدي للشركات وقت هبوط الأسواق، بدءاً من خفض التكاليف في جميع القطاعات عن طريق إرجاء المشروعات الجديدة، وتقليل نفقات البحث والتطوير والتسويق والمبيعات، وتدريب الموظفين، وتجميد التعيينات الجديدة، بل وحتى تقليل أعداد الموظفين، وتجميد عمليات الاستحواذ وشراء الأصول.

ولأن أسهم شركات التكنولوجيا كانت من بين الأشد تضرراً؛ جراء انخفاض السوق مؤخراً، فقد يستنتج البعض خطأ أن هذه نهاية الثورة الرقمية، وقد تبدأ بعض الشركات في تقليص مساعيها للتحول الرقمي، لكن هذه ليست بالضرورة أفضل الاستراتيجيات في الوقت الحالي، على العكس، قد توفر التطورات الحالية فرصاً فريدة للاستثمار الحصيف.

مضمار سباق

ولتقريب الفكرة، يقول الخبراء إنه على الشركات أن تنظر إلى الركود على أنه منحنى حاد في مضمار سباق للسيارات، وقد يكون أفضل مكان لتجاوز المنافسين، ولكنه يتطلب مهارة أكثر من الطرق المباشرة، يقوم السائقون المهرة عادة بضغط المكابح قبل المنحنى بقليل (تقليص التكاليف الزائدة)، فيما يزيدون السرعة قرب قمة المنحنى (عبر تحديد قائمة قصيرة بالمشروعات التي ستشكل نموذج العمل القادم)، بينما يطلقون لسياراتهم العنان عند الخروج من المنحنى (عبر زيادة الإنفاق والتوظيف قبل انتعاش الأسواق).في البداية، تتسم فترات الركود عادة بالقصر وتليها عادة فترات طويلة من النمو والازدهار، فالفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال، تعتبر أكبر مرحلة نمو في التاريخ الحديث، نفس الأمر ينطبق على السنوات التي تلت أزمة النفط في الفترة من 1973 إلى 1975، وكذلك الركود الناجم عن أزمة الطاقة في الفترة من 1981 إلى 1982، وركود حرب الخليج في الفترة من 1990 إلى 1991، وفقاعة الدوت كوم في الفترة من 2000 إلى 2002، والركود الكبير في الفترة بين عامي 2008 و2009، فكل ركود تلته فترة أطول من النمو.

لكن الأهم، أن الركود يمثل فرصة لأنه يظهر المعدن الحقيقي للشركات، ويحدد بحد السيف من هم الرابحون ومن هم الخاسرون.

تذكر أن انهيار الدوت كوم كان انعكاساً لإدراج واسع النطاق لشركات جديدة لم يكن لديها سوى أفكار تجارية واعدة فحسب مثل “بيتس دوت كوم”، و”إي تويز”، و”ويب فان” وكلها لم تحقق إيرادات أو جاءت إيراداتها محدودة، وأهدرت هذه الشركات الكثير من الأموال بينما كانت تختبر أفكاراً غير جاهزة للتطبيق، وزاد عددها بشكل حاد خلال أوائل التسعينيات، مما أدى إلى ذروة في عدد الشركات المدرجة في 1997، لتبلغ نحو 7400 شركة.

وأدى انفجار فقاعة الدوت كوم إلى إفلاس وشطب العديد من الشركات التي كانت مدعومة بفورة الأسواق، وتمكنت شركات التكنولوجيا التي نجت من تلك الأزمة ومن الركود الكبير في أن تصبح أكبر مصدر ثروة للمستثمرين عبر التاريخ ومنها على سبيل المثال “فيسبوك” و”آبل” و”أمازون” و”نتفليكس” و”نفيديا” و”جوجل” و”مايكروسوفت”.

لذا فإنه من المهم خلال الأزمات ألا يركن مديرو الشركات إلى سياسة الاستسلام للأمر الواقع، بل عليهم أن يخططوا لمرحلة التوسع القادمة، لذا عليك البدء بدراسة ما فعلته بقية الشركات الباقية بشكل مختلف خلال فترات الركود السابقة، والأهم من ذلك، ألا تقتصر دراستك على الشركات التي نجحت فحسب، بل إلى تلك التي خرجت فائزة من الركود.

فبعض الشركات مثلا تقوم بإعادة هيكلة التكاليف لا خفضها قبل الركود بالإضافة إلى أنها تسعى لمزيد من ضبط الميزانية العامة مع دفع استراتيجيات النمو التجاري والقيام بعمليات دمج واستحواذ استباقية.

بالطبع تلجأ جميع الشركات إلى إدارة التكاليف في أوقات الركود، لكن البعض يفعل ذلك من خلال تقليص الإنفاق على العمليات منخفضة القيمة وتقليص حجم ومدى تعقيد العمل، ففي هذه الحالة تنظر الشركات إلى إدارة التكاليف على أنها وسيلة لإعادة تزويد محرك النمو بالوقود في المرحلة القادمة من دورة الأعمال.

شركة “كوستكو” للبيع بالتجزئة عبر تقديم الخصومات طبقت هذا النهج الاستراتيجي؛ ففي وقت مبكر من الأزمة المالية، قامت الشركة بتبسيط نموذج أعمالها وقلصت تنوع المنتجات في كل فئة، وخاصة المنتجات ذات العلامات التجارية، من أجل الحصول على خصومات أكبر لعمليات الشراء بالجملة، وحولت الشركة المزيج البيعي لديها من السلع المعمرة إلى المزيد من السلع الاستهلاكية الأساسية.

كما لجأت الشركة إلى تحسين سلاسل التوريد عبر تجميع بعض الأنشطة وجعلها مركزية لتخفض بذلك التكاليف إلى النصف في بعض الأحوال، كما عوّلت أكثر على مراكز توزيع البضائع لتقلل زمن الشحن إلى أقل من 24 ساعة مما قلص بالتالي تكلفة التخزين، كل هذه الخطوات سمحت لها بتحقيق نمو مستقر في الإيرادات والأرباح خلال وبعد الركود.

سامسونج .. تجربة مضيئة
فئة، وخاصة المنتجات ذات العلامات التجارية، من أجل الحصول على خصومات أكبر لعمليات الشراء بالجملة، وحولت الشركة المزيج البيعي لديها من السلع المعمرة إلى المزيد من السلع الاستهلاكية الأساسية.

كما لجأت الشركة إلى تحسين سلاسل التوريد عبر تجميع بعض الأنشطة وجعلها مركزية لتخفض بذلك التكاليف إلى النصف في بعض الأحوال، كما عوّلت أكثر على مراكز توزيع البضائع لتقلل زمن الشحن إلى أقل من 24 ساعة مما قلص بالتالي تكلفة التخزين، كل هذه الخطوات سمحت لها بتحقيق نمو مستقر في الإيرادات والأرباح خلال وبعد الركود.

سامسونج .. تجربة مضيئة

العملاق الكوري الجنوبي “سامسونج” نموذج أيضاً ساطع بشدة، فخلال فترة الركود الكبير في 2008 و2009، أعادت سامسونج تنظيم أعمالها للتركيز على الربحية والكفاءة، مثلما فعلت معظم الشركات الأخرى، واضعة نصب عينيها أن تصبح رائدة عالمياً في مجموعة محدودة من المنتجات، فيما توقعت أن يتحول المستهلكون إلى المنتجات عالية الجودة خوفاً من أن الشركات ذات المنتجات منخفضة الجودة لن تستمر طويلا في ظل الركود.

استهدفت سامسونج أشباه الموصلات وشاشات الكريستال السائل (إل سي دي) والجوالات وكثفت استثمارها في البحث والتطوير، وبينما قلص منافسوها ميزانياتهم، ضاعفت الشركة براءات الاختراع المقدمة في الولايات المتحدة وشيدت أربعة أنماط من مراكز البحث والتطوير كل منها يركز على منتج محدد وبأفق استثماري واضح.

كما أبقت “سامسونج” على استثمارها في التسويق، بل واستقطبت مسؤولين تنفيذيين كبار في المجال من شركات استهلاكية كبرى بينها لوريال، ساعدت استراتيجية التسويق التي أعادت تشكيل العلامة التجارية لسامسونج كشركة مبتكرة في وضع أول هاتف ذكي من طراز جالاكسي، والذي أطلق في عام 2009، في منافسة مباشرة مع آيفون الذي تنتجه آبل.

فضلا عن ذلك تخارجت سامسونج من بعض الشركات التابعة العاملة في غير نشاطها الأساسي لإعادة استثمار رأس المال في أنشطتها الرئيسية.

وفي بداية الركود الماضي، احتلت سامسونج المرتبة الـ21 من حيث قيمة العلامة التجارية في قائمة “انترباند” العالمية، وحالياً تحتل المركز السادس.

اقتناص الموهبة

الركود أفضل وقت للحصول على الموارد من أجل التوسع القادم، في الوقت الذي يقلص فيه المنافسون قدراتهم، الموهبة هي المورد الأكبر والأهم وهي أكثر توفراً بكثير خلال الأزمات مقارنة مع مراحل النمو. فنحن مثلا بدأنا نشهد عمليات تسريح على سبيل المثال في قطاع التكنولوجيا؛ “تسلا” عملاقة السيارات الكهربائية قررت الاستغناء عن عشرة بالمائة تقريباً من موظفيها.

ونظراً لأن الشركات تقلص خطط البحث والتطوير والمشروعات الجديدة وتقلل من أعداد الموظفين وتخفض الرواتب والمكافآت، في الوقت الذي تتراجع فيه أسعار الأسهم مما يجعل منح الموظفين أسهماً ضمن برامج المكافآت أمراً عسيراً، فإن الأشخاص ذوي الموهبة الذين كانوا ينضمون إلى الشركات الناشئة أو شركات التكنولوجيا المالية ويحصلون على مكافآت ضخمة وخيارات أسهم باتوا يبحثون حالياً عن فرص عمل أكثر استقراراً.

وقت الأزمة أيضاً مناسب للاستحواذ على الشركات وشراء الأصول بأسعار منخفضة، على سبيل المثال، باتت بعض شركات التكنولوجيا الحيوية حالياً متاحة للبيع بسعر يقل حتى عن حيازاتها من النقد جراء انخفاض القيمة السوقية لأسهمها.

نتيجة لذلك، تعزز شركات الأدوية الكبرى عمليات استحواذها على تقنيات الصحة الرقمية مثل التطبيقات والأجهزة القابلة للارتداء، بين عامي 2008 و2010 مثلا، استحوذت شركات التكنولوجيا العملاقة على مئات الشركات وبراءات الاختراع الجديدة، وبالإضافة إلى جذب المزيد من الموظفين الموهوبين والأصول الجديدة، فإن هذا هو الوقت المناسب أيضاً لاقتناص حصة سوقية عبر جذب العملاء غير الراضين من المنافسين الذين يقلصون الخدمات المقدمة للعملاء.تسريع التحول الرقمي

تمتلك جميع الشركات تقريباً استراتيجية رقمية، وهو ما سمح للشركات بإدارة عملياتها بشكل طبيعي قدر الإمكان خلال جائحة كورونا، وللاستراتيجية الرقمية فوائد جمة؛ منها رؤية أكثر وضوحاً للموارد وإدارة أفضل لها، وتعزيز المرونة والقدرات التنظيمية، وخفض التكاليف وإدارة سلاسل التوريد على نحو أكثر سلاسة، وتقديم تجارب أفضل للعملاء، وتحسين الإنتاجية وتطوير المنتجات على نحو أسرع، والتخطيط الأفضل للموارد البشرية.

ولا يعني انهيار أسهم الشركات التكنولوجية أن هذه الفوائد لن تتعزز، وهذا بالتأكيد ليس وقت إبطاء التحول الرقمي، بل بالعكس قد يكون الوقت لتسريع ذلك؛ إذ تطرح البيئة المتقلبة المزيد من التحديات التي يمكن التصدي لها بشكل أفضل عبر التحول الرقمي الذي بالإضافة إلى ذلك قد يقدم فرصاً.

الشركات التقليدية العاملة في مجال البيع بالتجزئة ربما تمثل أفضل مثال، إذ تواجه الآن مشكلات معقدة في سلاسل التوريد أدت إلى تدهور إيراداتها وزيادة التكاليف، قد لا يحل التحول الرقمي جميع مشاكل تلك الشركات، ولكن يمكن أن يخفف من حدتها، إذ يمكن للتعلم الآلي أن يساعد شركات التجزئة على تحديد أنماط التسوق، وفهم السلوك الشرائي، وتعديل العروض الترويجية والخاصة، وإضفاء صبغة أكثر شخصية على توصيات المنتجات، وتعديل الأسعار سريعاً وتحقيق التوازن بين العرض والطلب سريع التغير وتفضيلات العملاء.

كما أن التحول في النموذج التسويقي من الوسائط التقليدية إلى القنوات الرقمية يتيح الوصول إلى العملاء المستهدفين بشكل أكثر دقة وعلى نحو أكثر خصوصية، فضلًا عن أن الجيل التالي من تحليلات البيانات يوفر ترسانة أكبر لتحديد الأسعار بناء على مستويات مختلفة والتحرك سريعاً للتكيف استناداً إلى كيفية تقييم فئات العملاء المختلفة لمنتجات وخدمات الشركة.

ومن النقاط المضيئة أنه بات بإمكان تلك الشركات الآن توظيف المتخصصين في مجال الهندسة وتكنولوجيا المعلومات الذين سرحتهم بعض شركات التكنولوجيا عندما يبدأون في البحث عن فرص عمل أكثر استقراراً.

فعلى سبيل المثال، وفي مجال التكنولوجيا المالية، شرعت “فيديكس” في التحويل الآلي لعمليات الضرائب والرواتب والتسويات الخاصة ببطاقات الائتمان والعمليات المالية الأخرى، وكذلك نشرت شركة “هني ويل” المتعددة الأنشطة ومنها قطاع النفط والغاز أدوات الواقع المعزز لخفض تكاليف الصيانة في المنصات البحرية لاستخراج النفط والغاز بما يصل إلى 50 بالمائة وتقليص عدد العاملين المطلوب نقلهم إلى تلك المنصات.

ارقام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على