في عام 1980 أرسلت شبكة التلفزة الأمريكية “إن بي سي” أحد أطقمها إلى اليابان بغرض إعداد فيلم وثائقي حول السر وراء التفوق الكاسح للمنتجات اليابانية أمام نظيرتها الأمريكية من حيث الجودة والسعر. وكان عنوان الفيلم الذي بث في نفس العام “إذا كانت اليابان قادرة على فعلها، فلماذا لا يمكننا فعلها أيضاً؟”.

ذُهل طاقم “إن بي سي” حين وجد لدى اليابانيين إجابة موحدة تقريباً عن أسئلتهم حول سر هذه القفزة التي حققتها الصناعة اليابانية. ببساطة أخبرهم اليابانيون أن الفضل في ذلك يعود بشكل رئيسي إلى رجل يدعى “ويليام ديمنج”.

بعد فترة من البحث، اكتشف طاقم القناة أن “ويليام ديمنج” هو مهندس تصنيع أمريكي يعيش في اليابان منذ أن أرسلته الحكومة الأمريكية إلى هناك قبل 30 عاماً وتحديداً في عام 1950 كجزء من جهودها لدعم عملية إعادة إعمار اليابان التي أنهكتها الحرب العالمية الثانية.

وفي الحقيقة إن قصة “ديمنج” مع اليابانيين والأمريكيين غاية في الغرابة والإثارة وتصلح أن تكون موضوع سلسلة أفلام وليس فيلماً واحداً. فالرجل الذي يمجده اليابانيون منذ أن وطئت قدماه طوكيو في عام 1950 -لدرجة أنه بعد قدومه بعام واحد أطلقوا اسمه على أهم جائزة في مجال الجودة الصناعية باليابان- ظل مغموراً غير محتفى به في بلده إلى أن بُث ذلك الفيلم.

الأمريكيون ينظرون تحت أقدامهم

في خضم الحرب العالمية الثانية عمل “ديمنج” الحاصل على درجة الدكتوراه من جامعة “يل” كخبير مهمته تدريب مراقبي الجودة في المصانع العسكرية الأمريكية على أحدث أساليب الجودة. وبفضل هذه الأساليب تمكنت الصناعة الحربية الأمريكية من تقليل عيوب الصناعة والهدر إلى حد كبير، وكان ذلك عاملاً حاسماً في تفوق الحلفاء في الحرب.

لكن بعد انتهاء الحرب صم مسؤولو ومديرو الصناعة الأمريكية آذانهم عن نصائح “ديمنج” وأساليبه الجديدة. ففي ذلك الوقت كانت أمريكا لتوها منتصرة في الحرب، كما كانت هي القوة الصناعية الوحيدة التي نجت من الحرب دون أي خسائر تذكر، ولذلك وجدت المصناع الأمريكية أنه لا حاجة لأساليب “ديمنج” لأن أي شيء يصنعونه يباع.

اعتقد مسؤولو الصناعة الأمريكية أن المبيعات التي تحققها الشركات هي دليل على فاعلية أسلوبهم في الإدارة. ولكنهم كانوا مخطئين. فببساطة إن سبب رواج المنتجات الأمريكية في ذلك الوقت لم يكن جودتها وإنما عدم وجود أي منافسة. فكل القوى الصناعية الأخرى خرجت من الحرب في حالة يرثى لها.

بعد نهاية الحرب بخمس سنوات وتحديداً في عام 1950، أرسلت الحكومة الأمريكية “ديمنج” وغيره من الخبراء إلى اليابان المدمرة بغرض المساعدة في جهود إعادة إعمار اليابان التي كانت تخشى واشنطن أن تقع فريسة في أيدي الشيوعية.

اليابانيون ينصتون لبطلهم

تلقى “ديمنج” استقبالاً خاصاً من اليابانيين الذين بمجرد أن عرفوا تاريخه المهني والأكاديمي أبدوا له الاحترام الشديد وأصغوا له ولنصائحه كالطلاب المنضبطين. وفي محاضراته، أخبرهم “ديمنج” بأن اليابان بوسعها أن تكون عملاقاً صناعياً إذا ركزت على الجودة من خلال نظام التحسين المستمر.

ما شرحه لهم “ديمنج” هو ما يسمى اليوم بـ”إدارة الجودة الشاملة”. فالجودة أولاً تخفض التكاليف لأنها تقلل الهدر، وثانياً تساعد الشركات على توسعة حصصها السوقية بسبب رضا العملاء عن الجودة.

النصيحة الأهم التي أعطاها “ديمنج” لليابانيين والتي نفذوها بالحرف هي عدم محاولة تقليد أو نسخ نظام مراقبة الجودة الأمريكي المعيب من وجهة نظره، وبدلاً من ذلك القيام بدمج مراقبة الجودة في عملية التصنيع.

وهذه بالمناسبة ذات النصيحة التي أسداها “ديمنج” للمديرين الأمريكيين ولكنهم لم يستمعوا إليها.

ساعدت نصائح وتوجيهات “ديمنج” اليابانيين على صناعة منتجات تتفوق بشكل واضح على نظيرتها الأمريكية. وكان هذا التفوق واضحاً في قطاع السيارات أكثر من أي قطاع آخر. فبحلول السبعينيات تدهورت أحوال صناعة السيارات الأمريكية التي لم تكن تدار من قبل رجال موهوبين في الصناعة وإنما من قبل خبراء في المالية والتسويق.

ولذلك عندما اندلعت أزمة الطاقة في السبعينيات، لجأ المستهلكون حول العالم بما في ذلك المستهلك الأمريكي إلى السيارات اليابانية الأرخص والأعلى جودة والأكثر كفاءة في استهلاك الوقود.

فقد كانت الشركات اليابانية تبتكر باستمرار، وفي نفس الوقت تطبق أحدث أساليب الجودة وأكثرها صرامة، على عكس الشركات الأمريكية التي كانت تتركز جهودها بشكل أساسي على حمل المستهلك على شراء السيارة، غير مهتمة بما يحدث بعد ذلك.

بعد 30 عاماً.. الأمريكيون يكتشفون “ديمنج”

بعد فترة عاد “ديمنج” -بطل اليابان- ليستقر في منزله بواشنطن مثله مثل أي مواطن مغمور وظل على هذه الحال إلى أن بلغ الثمانين من عمره. فجأة تحول الرجل إلى أحد نجوم المجتمع بعد أن بثت “إن بي سي” فيلمها الوثائقي الشهير، وبدأ كبار رجال الصناعة الأمريكية يحاولون التواصل معه بشتى الطرق لدرجة أن هاتفه لم يتوقف عن الرنين.

واحدة من الشركات الأمريكية التي هرعت حينها لطلب المساعدة من “ديمنج” هي شركة صناعة السيارات “فورد موتور”. ففي عام 1981 تراجعت مبيعات الشركة، وفي الفترة ما بين عامي 1979 و1982 تكبدت “فورد” خسائر بقيمة 3 مليارات دولار. كانت الأمور في الشركة في طريقها للخروج عن نطاق السيطرة.

في محاولة لإنقاذ الوضع أمر الرئيس التنفيذي للشركة “دونالد بيترسن” مدير قسم الجودة المعين حديثاً بالشركة “لاري مور” بمحاولة إقناع “ديمنج” بالعمل معهم ومساعدتهم في إخراج الشركة من مأزقها.

وافق “ديمنج” على العمل مع إدارة “فورد” التي استمعت إلى نصائحه وتوجيهاته باهتمام شديد. شكك “ديمنج” في ثقافة الشركة وطريقة عمل مديريها وأخبرهم بأن إجراءات الإدارة مسؤولة عن 85% من المشاكل التي تشهدها عملية تطوير السيارات بالشركة. وبناء على توجيهاته أطلق “بيترسن” ثقافة جديدة في الشركة عززت من التعاون العميق بين جميع مستويات الشركة ومختلف أقسامها.

بفضل توجيهات “ديمنج” التي تم تنفيذها بالحرف في إطار المبادرة التي أطلقت عليها الشركة “الجودة هي الوظيفة رقم واحد”، أصبحت “فورد” أكثر شركات السيارات الأمريكية ربحية بحلول عام 1986. وللمرة الأولى منذ العشرينيات تمكنت الشركة من تحقيق إيرادات تفوق ما حققته منافستها الأبرز “جنرال موتورز”.

واعترافاً منه بفضله كتب الرئيس التنفيذي لـ”فورد” عند تقاعده في عام 1990 رسالة إلى “ديمنج” يقول له فيها : “لقد كان لك تأثير كبير على حياتي وأفكاري.”

أخيراً، إن الفارق بين عقلية مديري الشركات اليابانية ونظرائهم الأمريكيين توضحه لقطة بسيطة حكاها “ديمنج” أكثر من مرة. فببساطة، قال الرجل إنه عندما وصل إلى طوكيو لأول مرة في عام 1950 بغرض إقامة ورشة عمل مدتها 8 أيام لم يرسل المسؤولون التنفيذيون للشركات اليابانية مهندسيهم نيابة عنهم بل حضروا بأنفسهم.

المصدر : أرقام

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

تابعنا على