هل يحمل العالم بين يديه قنبلة موقوتة تقترب من الانفجار؟ هذا هو التساؤل الذي قد يتبادر إلى الذهن عند استعراض بعض الأرقام الخاصة بالدين العالمي، الواردة في تقرير المعهد الدولي للتمويل، الذي يشير إلى أن الدين العالمي سيتجاوز 255 تريليون دولار بنهاية العام الحالي، لافتا إلى أن الدين العالمي بلغ 250.9 تريليون دولار في النصف الأول من عام 2019.
بحسب المعهد، فقد زاد الدين العالمي 7.5 تريليون دولار في الأشهر الستة الأولى من عام 2019، متوقعا أن يتجاوز الدين الحكومي 70 تريليون دولار هذا العام.
تشكل الولايات المتحدة والصين أكثر من 60 في المائة من الزيادة في الدين العالمي، فيما تبلغ ديون الأسواق الناشئة رقما قياسيا إذ وصلت إلى 71.4 تريليون دولار “220 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي”.
وتعد هذه الأرقام غير مسبوقة للدين العالمي، ما دفع بكثير من الاقتصاديين والمستثمرين إلى الإعراب عن قلقهم بشكل واضح مما وصل إليه الوضع، حتى إن القلق دفع ببعض الخبراء إلى توقع انهيار النظام العالمي تحت وطأة الديون المتزايدة.
في المقابل، لا يبدو محافظو البنوك المركزية قلقين للغاية من تراكم الديون، فقد صرح جيروم باول رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، بأنه لا يرى أي علامات على وجود فقاعة مديونية تختمر، أو مخاطر فورية ناجمة عن غياب القدرة على سداد الديون.
الدكتورة آماندا ديكنز أستاذة الاقتصاد الكلي في مدرسة لندن للتجارة، والاستشارية السابقة في الأمم المتحدة، تفسر موقف محافظي البنوك المركزية الذين لا يعتريهم القلق من تفاقم الدين العالمي بالقول “بالطبع لأنهم هم سبب المشكلة، والمسؤول الأول عن تراكم الدين العالمي، فسياسات التحفيز النقدي التي اتبعوها لأعوام أسهمت في تلك المشكلة”.
تنسجم وجهة النظر تلك، مع ما جاء في تقرير المعهد الدولي للتمويل، فالزيادة الكبيرة في الدين العالمي خلال العقد الماضي المقدرة بنحو 70 تريليون دولار، كانت مدفوعة بشكل رئيس بالحكومات وقطاع الشركات غير المالية، وتركز الارتفاع بشكل رئيس في الدين الحكومي العام في الاقتصادات الرأسمالية عالية التطور، إذ زاد من 17 تريليون دولار إلى أكثر من 52 تريليون دولار.
يشير التحليل التاريخي لقضية الديون العالمية إلى أن مستويات الدين العالمي آخذة في الارتفاع منذ ثمانينيات القرن الماضي، يرجع ذلك في جزء كبير منه إلى مشكلات هيكلية كامنة في الاقتصاد الدولي.
يوضح لـ”الاقتصادية”، البروفيسور هيدسون سميث أستاذ الاقتصاد الدولي في جامعة ليدز أن “ركود معدلات النمو والربح في القطاع الصناعي في سبعينيات القرن الماضي، دفع بالإدارة الأمريكية وحكومات المملكة المتحدة والدول الرأسمالية عالية التطور إلى تحرير القطاع المالي، وإلغاء سيطرة الدولة على العملية الإنتاجية، ونتيجة ذلك زادت قدرة الحكومات والشركات والأفراد، على الاقتراض، وباتت رؤوس الأموال تحقق معدلات أرباح أعلى من الماضي، لكنها أرباح تعود إلى تحول الشركات إلى الأنشطة المالية بدلا من الأنشطة الإنتاجية”.
ويضيف سميث أن “رفع يد الدولة عن الاقتصاد منذ سيادة الأفكار الليبرالية على الاقتصاد العالمي، أدى إلى خصخصة قطاعات حيوية مثل التعليم والصحة والإسكان، وباتت أثمان تلك الخدمات باهظة، بينما ظلت الأجور ثابتة أو لا تنمو بمعدل نمو أسعار تلك الخدمات ذاته، فلم يكن أمام الأفراد سوى الاستدانة، وأصبحت الديون أمرا طبيعيا وجزءا أصيلا لا ينفصل عن النظام الاقتصادي، فمن الطبيعي الآن أن تطلب قرضا من أجل العلاج أو التعليم أو شراء عقار وحتى الجوانب الترفيهية مثل السفر إلى الخارج”.
ويشير سميث إلى أنه بهذه الطريقة نمت ثقافة الديون وبات الدين أمرا عاديا ومألوفا لدى الناس، متوقعا أن يتجاوز الدين العالمي منتصف هذا القرن 450 تريليون دولار، وهذا الرقم لا يمكن أن يتحمله الاقتصاد العالمي، وعليه من الآن البحث عن حل جذري وإلا فإن الانهيار واقع لا محالة.
آرثر دين المدير الاستثماري في صندوق التحوط “ليون جايت كابيتل مانجمينت” يتفق مع سميث بشأن احتمال تجاوز الدين العالمي 450 تريليون دولار بحلول منتصف القرن، لكن زيادة الدين العالمي أمر، وانهيار الاقتصاد الدولي أمر آخر”.
ويضيف لـ”الاقتصادية”، أن “هناك 60 دولة معرضة حاليا لخطر الإفلاس، أي نحو ثلثي دول العالم معرضا للإفلاس، ومع هذا ستظل مستويات الديون مرتفعة لفترة طويلة مقبلة، فالديون كالعنصرية، مهما كنا جميعا مختلطين في المستقبل فستبقى العنصرية، وهكذا مهما بلغ سوء وضع الاقتصاد العالمي فستبقى الديون، لأنه على الرغم من أن الاقتصاد المثقل بالديون الكبيرة يتباطأ نموه، إلا أن الديون أصبحت في كثير من الأحيان الوسيلة الأساسية للخروج من الاختناق الاقتصادي”.
يشير آرثر دين إلى أن “فكرة انفجار فقاعة الدين العالمي في جميع دول العالم في الوقت ذاته فكرة نظرية، لا مجال لها في أرض الواقع، إنها أشبه بالحديث عن الوحش ذي الرؤوس السبعة، مخيف أن نصطدم به، لكن حمدا لله لأنه لا يوجد في الواقع”.
لا تلقى فكرة استبعاد انفجار أزمة الديون دعما كبيرا بين الاقتصاديين، بل في الواقع فإن جل الاقتصاديين يعتقدون أنها باتت ممكنة الحدوث في أي وقت.
وأدى الاعتماد على السياسات النقدية غير التقليدية بضخ كميات كبيرة من الأموال الرخيصة في المنظومة الاقتصادية إلى تحفيز الانتعاش، وارتفاع الديون إلى مستويات غير مسبوقة.
وعندما أقرضت حكومات الولايات المتحدة والدول الرأسمالية عالية التطور البنوك لإعادة الهيكلة، وأقرضت الشركات المالية لإنقاذها من الإفلاس، أو لجأت إلى خفض أسعار الفائدة لإيجاد حوافز للنمو الاقتصادي عبر زيادة الاقتراض ومن ثم الإنفاق، أو استبدلت الإقراض بمنح تخفيضات ضريبية كبيرة لكبار الرأسماليين، فإن ذلك كله كان يعني باختصار أن حل أزمة ديون القطاع الخاص يأتي على حساب زيادة المديونية العامة.
لهذا، يرى ولتر هازلت الخبير المصرفي في بنك إنجلترا أن قضية الديون باتت من التعقيد والخطورة بما يتطلب إعادة النظر في بعض القيم الاقتصادية الراسخة، إذا كانت هناك نوايا دولية حقيقية لمعالجتها.
ويوضح لـ”الاقتصادية”، أنه “لا توجد شهية دولية حقيقية للتصدي للمشكلة التي لا تقف عند حدود الاقتصاد، فالسياسيون لا يستطيعون مواجهة الرأي العام خاصة في البلدان المتقدمة، وإطلاعه على أن نمط الإنفاق الحالي لا يمكن أن يستمر، إذا رغبنا في الخلاص من الدين العالمي، كما أننا في حاجة إلى إجراء تغييرات حقيقية على الهياكل الضريبية الدولية، لتوليد مزيد من العائدات بما يعني مزيدا من الضرائب على الأثرياء”.
يشير هازلت إلى أن “الوعود غير الممولة للسياسيين، التي لا يمكن عمليا تمويلها بالموارد المحلية، لن تكون هناك من سبيل أخرى غير اللجوء إلى الديون لتمويلها لإرضاء رغبات الناخبين والمستهلكين”.
مع هذا، يؤكد بعض الخبراء أن قضية الديون على الرغم من خطورتها وتفاقمها، إلا أنه من المستبعد أن تنفجر جميع مكوناتها في وقت واحد، ويعد هذا الأمر من وجهة نظر البعض إيجابيا بعض الشيء، ويمنح الاقتصاد العالمي الفرصة لتفكيك المشكلة جزئيا بحيث يمكن أن يتعامل معها.
ويشير هيل هوجرت الخبير الاستشاري في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إلى أن “الديون العالمية تتشكل من شقين أساسيين أحدهما مرتبط بديون القطاع الخاص والشركات، وبالطبع من المحتمل أن يتخلف عديد من الشركات عن السداد في حال تراجعت معدلات النمو الاقتصادي، والشق الثاني يرتبط بالديون الحكومية، وعلى الرغم من تداخل المشكلتين كأن تكون مصابا بالسكري والضغط في آن واحد، فإنه بمقدورك تناول علاج للمشكلتين، لكن يفضل إعطاء الأهمية لإحدى المشكلتين والتركيز عليها بهدف السيطرة عليها أو حتى التخلص منها”.
يعتقد هوجرت أن التركيز على حل قضية ديون القطاع الخاص يجب أن يحظى بالأهمية، دون أن يعني ذلك تحويل ديون القطاع الخاص إلى القطاع الحكومي أو دافعي الضرائب، إنما عبر عملية طويلة الأمد من إعادة الهيكلة، وخفض النفقات، بل والتخلص من بعض الشركات التي باتت حجر عثرة أمام حلة المشكلة.
وحول أسباب التركيز على قضية ديون الشركات، رغم تعاظم الدين الحكومي على المستوى العالمي، يجيب هوجرت بأنه إذا تم حل مشكلة مديونية الشركات والقطاع الخاص، فسيصبح لدى الدولة وعاء ضريبي أكبر، وأكثر مرونة وتماسكا، بحيث يمكن الاعتماد عليه للتخلص من قضية الدين الحكومي تدريجيا.
وربما تتفق وجهة النظر تلك نسبيا مع تقرير معهد التمويل الدولي، فغياب الاستقرار في الأسواق العالمية، والشعور العام بإمكانية عودة سيناريو الأزمة المالية العالمية في عام 2008، يدفع بكثير من المستثمرين إلى الأصول الأكثر أمانا مثل سندات الخزانة الأمريكية.
ويعد التكالب على أسواق السندات العالمية سببا في ارتفاع الديون العالمية، فقد ارتفعت أسواق السندات العالمية من 87 تريليون دولار عام 2009، إلى أكثر من 115 تريليون منتصف العام الجاري.
وشوهد هذا النمو في الغالب في سوق السندات الحكومية التي تشكل الآن 47 في المائة من أسواق السندات العالمية مقارنة بـ40 في المائة عام 2009.
لهذا يرى هوجرت أن سداد ديون الشركات سيبعث برسالة إيجابية إلى المستثمرين بشأن أداء الاقتصاد العالمي، ما يدفعهم إلى الاستثمار في القطاع الخاص، بعيدا عن السندات الحكومية، التي يعمق الاستثمار الكثيف فيها أزمة المديونية العالمية، ويفاقم ديون القطاع الحكومي.
الإقتصادية