دون مبالغات أو توقعات متشائمة، يرى محللون اقتصاديون أن الاقتصاد العالمي يتجه إلى حالة من الركود في العام المقبل، فصافرات الإنذار باتت تدوي الآن في مراكز صنع القرار الاقتصادي في العواصم الكبرى، وداخل كبريات المؤسسات الاقتصادية والمالية في العالم.
وتصاعد التوترات التجارية وآخرها القرار الأمريكي بفرض رسوم جمركية على بضائع تستوردها أمريكا من الاتحاد الأوروبي بقيمة 7.5 مليار دولار، بعد صدور حكم لمصلحتها من منظمة التجارة العالمية.
ولا شك أن هناك عدة عوامل تجعل من توقعات الركود الاقتصادي حقيقة يصعب تجنبها، وبين هذه العوامل: حرب العملات المستترة، سواء كانت عملات من قبيل الدولار الأمريكي واليوان الصيني، أو العملات الافتراضية من قبيل “بيتكوين” و”ليبرا”، الذي يخطط موقع التواصل الاجتماعي الشهير “فيسبوك” لإصدارها، أو العملات الافتراضية، التي تخطط الصين والاتحاد الأوروبي لطرحها في الأسواق قريبا، أضف لذلك تراكم ديون الشركات، والمشكلات المتوقع أن تواجه الاقتصاد البريطاني، خامس أكبر اقتصاد في العالم، جراء خروجه من الاتحاد الأوروبي.
وتدفع تلك المجموعة من العوامل السلبية بالخبراء إلى توقع ألا يتجاوز معدل النمو العالمي هذا العام 2.3 في المائة مقابل 3 في المائة العام الماضي، فعديد من الاقتصادات الناشئة الكبيرة تعاني بالفعل الركود، وكذلك بعض الاقتصادات عالية التطور مثل الاقتصاد الألماني والبريطاني اللذين يقتربان بخطوات سريعة من دوامة الركود أيضا.
وفي الواقع، فإن الركود الاقتصادي، وعلى الرغم من أنه أحد الظواهر الطبيعية في دورة النظام الرأسمالي، فإن المظاهر الأولية، التي باتت واضحة بقوة، تعود إلى تفشي ما يمكن وصفه بحالة من الهوس بالسياسات النقدية، بحيث أضحت معايير النجاح الاقتصادي مرتبطة بأسعار الأسهم والأرباح الفصلية وثقة المستثمرين، أكثر من ارتباطها بزيادة الوظائف وتحسن الأجور وتنامي الاستثمارات العامة.
ويقول لـ”الاقتصادية”، الدكتور هنري كريس، الاستشاري في منظمة التجارة العالمية، إن “تباطؤ النمو في جميع الاقتصادات المتقدمة الرئيسة، بما في ذلك الولايات المتحدة، يؤكد أن الاعتماد على السياسة النقدية الميسرة، والارتفاع المصطنع لأسعار الأصول لتحفيز الإنتاج، يفضي في أفضل الأحوال إلى نمو سريع لكنه زائل، كما أن التخفيضات الضريبية للشركات والأفراد الأثرياء تفشل في إطلاق استثمارات منتجة على الأمد الطويل”.
وتعني وجهة النظر تلك، أن الاقتصاد العالمي وبعد مرور ما يزيد على عشرة أعوام على الأزمة المالية العالمية في عام 2008، لا يزال هشا وماليا بشكل مفرط، بل إن أنصار السياسات النقدية والمنظرين لهذا النهج الاقتصادي، لا ينفون حاليا أن الوضع الاقتصادي الراهن ينذر بمشكلات خطيرة للنظام النقدي.
وحول الوضع الاقتصادي الراهن، توضح لـ”الاقتصادية”، سوزان أستون، الباحثة في مجال التجارة الخارجية، أن “التجارة العالمية سيتباطأ نموها بشكل حاد هذا العام بعد ضعف الطلب العالمي، كما أن حرب التعرفة الجمركية بين الولايات المتحدة والصين، والجهود المبذولة من قبل البلدان المتقدمة لإعاقة تقدم النظم والإبداعات التكنولوجية في الجنوب، عبر قواعد غير عادلة في التجارة الدولية، لها تأثير سلبي في التعاون الدولي، تلك العوامل تؤدي جميعها إلى هبوط معدل نمو التجارة الدولية من 2.8 في المائة العام الماضي إلى 2 في المائة هذا العام في أفضل الأحوال”.
وفي ظل تلك الأوضاع يرجح بعض الخبراء الاقتصاديين، أنه من الخطر محاولة معالجة الأزمة الراهنة بالتخلي التام عن السياسات النقدية المهيمنة على المشهد الاقتصادي العالمي، لمصلحة الأنماط الاقتصادية التقليدية.
وسيؤدي هذا إلى ارتباك في النشاط الاقتصادي، بل وتفتت في الهياكل الراهنة دون أن يكون الوضع العام قد سمح بتبلور هياكل بديلة، قادرة على قيادة المنظومة الاقتصادية الدولية.
ويطرح أنصار هذا المنهج منطقا أكثر تدرجا لتفكيك الأزمة إلى بنياتها الأولية، قبل بدء التعامل معها عبر مزيج من السياسات الاقتصادية المختلطة، فعلى الرغم من إقرارهم بأن السياسات النقدية لم تفلح في إخراج الاقتصاد الدولي من عثرته بشكل كامل، إلا أن بعض التدابير النقدية غير التقليدية مثل أسعار الفائدة السلبية والتيسير الكمي، إلى جانب تحرير التجارة ربما تكون مناسبة لعلاج الخلل الاقتصادي الدولي الراهن، خاصة إذا تم تعزيزها ببعض السياسات الاقتصادية التقليدية، لزيادة معدلات التوظيف وإعادة الاهتمام بالاقتصاد المادي المنتج.
ويساعد تنامي الدعوات الدولية لمقاربات اقتصادية جديدة، على الخروج من الهشاشة الراهنة للمنظومة الاقتصادية العالمية، تنبع في جزء منها من حالة الترابط الراهن بين مكونات النظام الاقتصادي على مستوى الدول، في ظل المخاوف الاقتصادية التي تزداد في البلدان الرأسمالية عالية التطور، فيما من المرجح أن يكون النمو أكثر تباطؤا، إلا أنه سيكون أكثر إيلاما في الاقتصادات الناشئة والنامية في إفريقيا جنوب الصحراء وأمريكا اللاتينية وآسيا.
ويشير لـ”الاقتصادية”، إل.دي.سميث، نائب رئيس قسم استراتيجيات التنمية في معهد الاقتصاد الدولي إلى أن معدلات النمو تتراجع في عديد من البلدان النامية نتيجة تقلص التدفقات الرأسمالية.
وعلى الرغم من أن سميث يرجع ذلك إلى الفترة السابقة لاندلاع الحرب التجارية بين واشنطن وبكين، معتمدا في ذلك على عديد من الدراسات الدولية الموثوق بحيادتيها، التي تكشف عن مبالغات فيما يتعلق بالتعاون الاقتصادي بين البلدان المتقدمة والنامية، كما أظهرت تلك الدراسات أن الديون آخذة في التراكم على البلدان الناشئة، وجزء كبير من تلك الديون قصير الأجل ومقوم بعملات أجنبية، وإذا لم يتم الإسراع باتخاذ إجراءات جذرية ذات طابع كلي ودولي لإيجاد حل سريع للهشاشة، التي تهيمن على النظام الاقتصادي العالمي، فإن إمكانية الانهيار وتكرار أزمة عام 2008، أمر وارد، وفقا لرؤية سميث.
وفي الواقع، فإن قضية الديون الدولية، خاصة في البلدان النامية، إحدى القضايا المسكوت عنها حتى الآن في الاقتصاد العالمي، التي لا تطرح بشأنها معالجات حقيقية ذات طابع جذري.
وفي 2017 بلغ إجمالي ديون الاقتصادات النامية معدلات غير مسبوقة، إذ لامست 190 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وأغلب تلك الديون يقع العبء على القطاع الخاص، إذ ارتفعت نسبة ديون القطاع الخاص في البلدان النامية من 79 في المائة من إجمالي الديون عام 2008، إلى 139 في المائة 2017، بينما لا تتجاوز ديون القطاع العام 51 في المائة في الوقت الحالي.
ويقول لـ”الاقتصادية”، يعقوب تيد، الخبير المصرفي، إن “الزيادة في الديون الخاصة زادت حدتها في أعقاب الأزمة المالية، خاصة في البلدان ذات الدخل المرتفع، إذ وصلت إلى 165 من الناتج المحلي الإجمالي 2017، لكن الظاهرة الجديدة والأكثر خطورة أن معدلات الديون آخذة في النمو بشكل سريع في البلدان ذات الدخل المنخفض”.
وأشار الخبير المصرفي، إلى أنه “إذا فشلت تلك البلدان في سداد ديونها، فإن الانكماش الاقتصادي واقع لا محالة، وهو ما يتطلب البحث عن آلية واقعية لتخفيف عبء الديون على البلدان النامية، على أن يتحرك المجتمع الدولي في مسارين أحدهما يرتبط بإعادة الهيكلة، والآخر بتعزيز التنمية المستدامة للأجيال المقبلة”.
الإقتصادية