في لعبة “الخوف” الكلاسيكية يكون هناك سائقين يتسابقان مباشرة نحو بعضهما البعض وأول شخص ينحرف بسيارته هو الخاسر، أما في حالة عدم انحرافهما هم الاثنين ففي الأغلب سوف يتوفيان معاً.
ويقول الاقتصادي الأمريكي نورييل روبيني في مقال نشره موقع “بروجيكت سينديكيت” إنه في الماضي تمت دراسة هذه السيناريوهات من أجل تقييم المخاطر التي تفرضها تنافس القوى العظمى، وفي أزمة صواريخ كوبا على سبيل المثال، تواجه قادة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي مع وجود خيارين إما فقدان ماء الوجه أو التسبب في صدام كارثي.
ودائماً ما يكون السؤال: أي الحلول الوسط التي يمكن أن تحافظ على حياة ومصداقية كلا الطرفين؟.
وفي الوقت الحالي يحدث أنواع عديدة من لعبة الخوف أو الرعديد أو ما يطلق عليه الأمريكيين “الدجاجة” في المجال الجيواقتصادية، وفي كل الحالات فإن فشل التوصل إلى حل سيؤدي إلى صدام، ويتبعه على الأرجح ركود عالمي وأزمة مالية.
وأول وأهم سياق يحدث من خلاله هذا السيناريو هو ما يتم بين الولايات المتحدة والصين حول التجارة والتكنولوجيا.
والثاني هو النزاع الذي يتشكل ما بين الولايات المتحدة وإيران، أما الثالث فهو في أوروبا حيث تصعيد الخلاف بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي.
وفيما يتعلق بالنزاع الرابع فهو الأرجنتين والذي قد ينتهي به المطاف للاصطدام مع صندوق النقد الدولي بعد المعركة المحتملة في الانتخابات الرئاسية المقررة في الشهر المقبل.
وفي الحالة الأولى.. فإن حرباً واسعة النطاق في قطاعات التجارة والتكنولوجيا والعملات بين الولايات المتحدة والصين قد تدفع الموجة الهبوطية الآنية في التجارة والصناعة والإنفاق الرأسمالي إلى الامتداد إلى الخدمات والاستهلاك الخاص، ما يعني توريط الولايات المتحدة والاقتصاد العالمي في ركود شديد.
وعلى نحو مماثل فإن الصراع العسكري بين الولايات المتحدة وإيران قد يدفع أسعار النفط إلى أن تتجاوز 100 دولار للبرميل ما يؤدي لحدوث ركود تضخمي، وهو ما حدث بالفعل خلال حرب أكتوبر في 1973، وعام 1979 في أعقاب الثورة الإيرانية، ثم في عام 1990 بعد غزو العراق للكويت.
الحالة الثالثة.. وقد لا تؤدي الضجة التي يحدثها البريكست في حد ذاته إلى ركود عالمي، ولكن من المؤكد أنها ستؤدي إلى ركود الاقتصاد الأوروبي، والذي سيتفشى بعد ذلك إلى الاقتصاديات الأخرى.
والحكمة التقليدية تقول إن البريكست الصعب سيؤدي إلى ركود حاد في المملكة المتحدة وليس أوروبا ـ لأن بريطانيا أكثر اعتماداً على التجارة مع أوروبا وليس العكس.
وهذا اعتقاد ساذج، لأن منطقة اليورو تعاني بالفعل من تباطؤ حاد كما أنها تحت قبضة انكماش القطاع الصناعي، كما أن إيرلندا وبلجيكا وهولندا وألمانيا – التي تقترب من الركود بالفعل – يعتمدون في الحقيقة وبغزارة على سوق الصادرات البريطاني.
ومع الانخفاض الفعلي لثقة الشركات في منطقة اليورو نتيجة للتوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة، فإن حدوث البريكست الفوضوي سيكون هو القشة التي قسمت ظهر البعير.
فقط تخيل آلاف السيارات والشاحنات التي تتكدس من أجل تسجيل أوراق جمركية جديدة في مدينة دوفر البريطانية أو كاليه الفرنسية، وعلاوة على ذلك فإن قد يكون للركود الأوروبي تداعيات كتقويض النمو العالمي.
كما أنها قد تؤدي أيضاً إلى حرب عملات جديدة في حال انخفاض قيمة عملتي اليورو والإسترليني بشكل حاد أمام العملات الأخرى.
الحالة الرابعة.. قد يكون للأزمة في الأرجنتين تداعيات عالمية، حيث أنه في حالة فوز ألبرتو فرناندوز على حساب الرئيس ماوريسيو ماكري، وعرقلته لقرض صندوق النقد الدولي، وحين ذلك قد تكرر الأرجنتين الأزمة التي واجهتها في 2001 والتي تضمنت أزمة عملة والتخلف عن سداد ديونها.
وقد يؤدي ذلك إلى هروب رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة بشكل عام أكثر ما يؤدي إلى أزمة في الدول التي لديها معدل ديون مرتفع مثل تركيا وفنزويلا وباكستان ولبنان، وتعقيد الأمور على نحو أكبر للهند وجنوب إفريقيا والصين والبرازيل والمكسيك والإكوادور.
وفي السيناريوهات الأربعة السابقة فإن كلا الجانبين يرغبان في حفظ ماء الوجه، حيث يرغب دونالد ترامب في اتفاق تجاري مع الصين من أجل استقرار الاقتصاد والأسواق قبيل انتخابات الرئاسة 2020، والرئيس الصيني يريد اتفاقاً يوقف تباطؤ الاقتصاد.
ولكن لا يوجد أي منهما يرغب في أن يكون هو “الشخص الخائف او الجبان” لأن ذلك سيقلص موقفه السياسي المحلي ويزيد سلطة وقوة الجانب الآخر.
وعدم التوصل إلى اتفاق بحلول نهاية العام يجعل من ذلك الصدام أكثر احتمالاً.
وبالمثل، يعتقد ترامب أنه يمكنه أن “يتنمر” على إيران بالتخلي عن خطة العمل الشاملة المشتركة وفرض عقوبات عديدة، لكن إيران استجابت بتصعيد الأعمال الاستفزازية الإقليمية، حيث تعي جيداً أن ترامب لا يستطيع تحمل حرب واسعة النطاق وأسعار النفط التي من المرجح أن تنتج عنها.
وعلاوة على ذلك فإن إيران لا ترغب في أن تدخل في مفاوضات مع ترامب حتى يتم حذف بعض العقوبات.
ومع رفض الجانبين التخفيف من موقفهما قبل الأخر، فإن خطر وقوع حادث ما يتصاعد.
أما بوريس جونسون فيعتقد بسذاجة أنه قد يستخدم البريكست الصعب في التنمر على الاتحاد الأوروبي فيما يتعلق بتقديم صفقة خروج أفضل من التي توصلت إليها تريزا ماي.
ولكن البرلمان مرر تشريع يمنع البريكست دون اتفاق، وبذلك فإن جونسون يلعب الآن لعبتي “خوف” في آن واحد، والتفاوض مع الاتحاد الأوروبي بشأن مسألة الحدود الإيرلندية لا يزال ممكناً قبل 31 أكتوبر/تشرين الأول، لكن احتمالية تنفيذ البريكست الصعب لاتزال مرتفعة.
أما في الأرجنتين فإن كلا الجانبين يحاول أن يتظاهر، حيث يرغب فرناندوز في تفويض انتخابي واضح، وتقوم حملته الانتخابية على فكرة إلقاء اللوم على الرئيس ماكري وصندوق النقد في كل المشاكل التي تواجه الدولة.
أما صندوق النقد الدولي فرسالته واضحة وهي في حالة حجبه نهائياً للشريحة المقبلة المقدرة بـ5.4 مليار دولار، وإنهاء حزمة الإنقاذ، فإن الأرجنتين ستعاني من أزمة مالية جديدة.
ومع ذلك فإن فرنالندوز يمتلك أفضلية أيضاً، لأن الديون المقدرة بـ57 مليار دولار هي مشكلة لأي دائن وقدرة الصندوق على مساعدة الاقتصادات المتأزمة في حال عدم السداد سيمثل ستكون مقيدة في حال انهيار الأرجنتين.
وفي كل هذه الحالات يبدو الحل الأمثل في التسوية التي تحتفظ للجميع بماء الوجه، لكن الصدام والانهيار المالي يظل احتمالاً لا يمكن تجاهله.
والمشكلة هي أنه في حين أن التسوية تتطلب من الطرفين التخلي عن التصعيد، فإن المنطق التكتيكي للعبة الخوف يكافئ السلوك المجنون، وإذا كان بإمكاني جعل الأمر يبدو كما لو كنت قد أزلت عجلة القيادة، فلن يكون أمام الجانب الآخر خيار سوى الانحراف، وبالتالي سيفوز الطرف الأول.
ولكن إذا قام كلا الجانبين بإلقاء عجلات القيادة الخاصة بهما فإن التصادم يصبح أمرًا لا مفر منه.
والخبر السار في السيناريوهات الأربعة أن كل طرف لا يزال يتحدث إلى الآخر، أو قد يكون منفتحاً للحوار في ظل بعض الظروف التي تحافظ على ماء الوجه.
أما الأخبار السيئة هي أن جميع الأطراف لا تزال بعيدة عن أي نوع من الاتفاق، الأسوأ من ذلك هو أن هناك غرور كبير قد يدفع البعض لتفضيل الاصطدام والتحطم أكثر من اعتباره “جبان”، وبالتالي فإن مستقبل الاقتصاد العالمي يعتمد على أربع مباريات جريئة يمكن أن تسير في أي من الاتجاهين.
مباشر